فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (27):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [27].
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} كقولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: من الآية 5]، وتقدم الكلام على هذا غير مرَّة. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} جملة جرت مجرى التعجب من قولهم، مشيرة إلى أنه من باب العناد والاقتراح لما لا تقتضيه الحكمة من الآيات المحسوسة التي لا يمهل أحد بعد مجيئها، لا من باب طلب الهداية. وإلا فلو كان بغيتهم طلب الهداية بآية لكفاهم إنزال هذا الكتاب من مثله، صلوات الله عليه، آية، فإنه آية الآيات...!. ولكنهم قوم آثروا الضلال على الهدى، زاغوا عنه فأزاغ الله قلوبهم. فطوى ما دل عليه هذه الجملة، إيجازاً للعلم بها.
قال أبو السعود: {قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها، أي: يخلق فيه الضلال لصرفه اختياره إلى تحصيله، ويدعه منهمكاً فيه؛ لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد، كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد، والغلو في الفساد. فلا سبيل له إلى الاهتداء، ولو جاءته كل آية.
ثم قال: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي: أقبل إلى الحق، وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة. وحقيقة الإنابة الدخول في نوبة الخير. وإيثار إيرادها في الصلة على إيراد المشيئة، كما في الصلة الأولى؛ للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها، والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى المكابرة. وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد. وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية لسابقة الإنابة، كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم. انتهى.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (28):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [28].
{الَّذِينَ آمَنُوا} بدل من {من أناب} أي: آمنوا بالله ورسوله وكتابه: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أي: تسكن وتخشى عند ذكره، وترضى به مولى ونصيراً. والعدول إلى صيغة المضارع؛ لإفادة دوام الاطمئنان واستمراره: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي: بذكره دون غيره تسكن القلوب أُنساً به، واعتماداً عليه، ورجاءً منه. وقدر بعضهم مضافاً، أي: بذكر رحمته ومغفرته، أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته. ورأى آخرون أن المراد: {بِذِكْرِ اللَّهِ} القرآن؛ لأنه يسمى ذكراً، كما قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: من الآية 50] وقال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] لأنه آية بينة تسكن القلوب، وتثبت اليقين فيها. وهذا المعنى يناسب قوله: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} [يونس: من الآية 20] أي: هؤلاء ينكرون كونه آية، والمؤمنون يعلمون أنه أعظم آية تطمئن لها قلوبهم ببرد اليقين. قال الشهاب: وهو أنسب الوجوه.

.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [29].
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} الموصول إما مبتدأ، و{طُوبَى لَهُمْ} مبتدأ ثان وخبر في موضع الخبر الأول، وإما خبر لمحذوف، أي: هم، وإما بدل من: {أناب} وجملة: {طُوبَى لَهُمْ} دعائية أو خبرية.
قال الزمخشري: {طوبى} مصدر من طاب كبشرى وزلفى. ومعنى طوبى لك أصبحت خيراً وطيباً، ومحلها النصب أو الرفع كقولك: طيباً لك، وطيب لك، وسلاماً لك وسلام لك. والقراءة في قوله: {وَحُسْنُ مَآبٍ} بالرفع والنصب تدلك على محليها. واللام في: {لَهُمْ} للبيان مثلها في سقياً لك والواو في: {طُوبَى} منقلبة عن ياء، لضمة ما قبلها. قال ثعلب: قرئ: {طوبىً لهم} بالتنوين.
قال الفاسي: ومن نوَّن: {طُوبَى} جعله مصدراً بغير ألف، كسقيا. وزعم بعضهم أنها كلمة أعجمية، وفي لسان العرب عن قتادة، أنها كلمة عربية، تقول العرب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، وأنشد:
طوبى لمن يستبدل الطود بالقرى ** ورسلاً بيقطين العراق وفومها

الرسل: اللبن، والطود: الجبل، والفوم: الخبز والحنطة. كذا في تاج العروس.

.تفسير الآية رقم (30):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [30].
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ} أي: مضت: {مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي: لتبلغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم، كما بلغ من خلا قبلك من المرسلين أممهم. وقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} جملة حالية أو مستأنفة، أي: يكفرون بالبليغ الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء، والعدول إلى المظهر الدال على الرحمة، إشارة إلى أن الإرسال ناشئ منها، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وإلى أنهم لم يشكروا نعمة هذا الوحي الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية، وإلى أن الرحمن من أسمائه الحسنى ونعوته العليا، وقد كانوا يتجافون هذا الاسم الكريم. ولهذا لم يرضوا يوم الحديبية أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم وقالوا: ما ندري ما الرحمن الرحيم؟ كما في الصحيح. وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: من الآية 110]. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعاً: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن».
{قُلْ هُوَ} أي: الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته: {رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أي: توبتي وإنابتي. فإنه لا يستحق ذلك غيره. ثم أشار تعالى إلى عظمة هذا الوحي وتفضيله على ما سواه بقوله:

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [31].
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} أي: قرآناً مَّا: {سُيِّرَتْ بِهِ} أي: بإنزاله أو بتلاوته: {الْجِبَالُ} أي: أذهبت عن مقارّها، وزعزعت عن أماكنها: {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} أي: شققت حتى تتصدع وتصير قطعاً: {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي: خوطبت بعد أن أحييت بتلاوته عليها، والجواب محذوف، أي: لكان هذا القرآن؛ لكونه غاية في الهداية والتذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف. وعلى هذا التقدير فالقصد بيان عظم شأن القرآن وفساد رأي الكفرة، حيث لم يقدروا قدره العليِّ ولم يعدوه من قبيل الآيات، فاقترحوا غيره مما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام. وقدر الزجاج الجواب: لما آمنوا به كقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} [الأنعام: من الآية 111] الآية، وعليه فالقصد بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلال والفساد.
ونقل عن الفراء، أن الجواب مقدم عليه وهو قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} وما بينهما اعتراض، وفيه بُعْدٌ وتكلف. وأشار بعضهم إلى أن مراده أنها دليل الجواب، والتذكير في كلم لتغليب المذكر من الموتى على غيره.
وقوله تعالى: {بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً} أي: له الأمر الذي عليه يدور فلك الأكوان وجوداً وعدماً، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحكم البالغة، وهو إضراب عما تضمنته: {لَوْ} من معنى النفي، أي: لو أن قرآناً فعل به ما ذكر لكان هذا القرآن، ولكن لم يفعل، بل فعل ما عليه الشأن الآن؛ لأن الأمر كله له وحده، وعلى تقدير الزجاج السالف، فالإضراب متوجه إلى ما سلف اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح. أي: فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعاً، إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه الحكمة، من غير أن يكون عليه تحكم أو اقتراح. كذا في أبي السعود.
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} أي: أفلم يعلم ويتبين كقوله:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ** وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

وقوله:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

أي: لم تعلموا! وييسرونني من إيسار الجزور، أي: يقسمونني، ويروى: يأسرونني من الأسر. أي: أفلم يعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم؛ لأن الأمر له. ولكن قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على الاختيار.
{وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: من أهل مكة: {تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} أي: بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه، وعدم بيانه لتهويله أو استهجانه. والقارعة: الداهية التي تقرع وتقلق، يعني: ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب: {أَوْ تَحُلُّ} أي: تلك القارعة: {قَرِيباً} أي: مكاناً قريباً: {مِّن دَارِهِمْ} فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها: {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ} أي: فتح مكة: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي: لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: من الآية 47]، وفي الآية وجه آخر، وهو حمل: {الَّذِينَ كَفَرُواْ} على جميع الكفار، أي: لا يزالون، بسبب تكذيبهم، تصيبهم القوارع في الدنيا، أو تصيب من حولهم ليعتبروا، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27]، وقوله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء: من الآية 44].

.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [32].
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: أمهلتهم وتركتهم ملاوةً من الزمن، في أمن ودعة، كما يملى للبهيمة في المرعى: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي: عقابي إياهم. وفيه من الدلالة على فظاعته ما لا يخفى. والآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما لقي من المشركين من التكذيب والاقتراح، على طريقة الاستهزاء به، ووعيد لهم.

.تفسير الآية رقم (33):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [33].
{أَفَمَنْ هُوَ قَائمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي: مراقب لأحوالها ومشاهد لها، لا يخفى عليه ما تكسبه من خير أو شر. فهو مجاز؛ لأن القائم على الشيء عالم به، ولذا يقال: وقف عليه، إذا علمه فلم يخف عليه شيء من أحواله، والخبر محذوف تقديره: كمن ليس كذلك. وإنما حذف اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء} أي: عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان، وقوله: {قُلْ سَمُّوهُمْ} تبكيت لهم إثر تبكيت، أي: سموهم من هم، وماذا أسماؤهم؟ فإنهم لا حقيقة لهم! أو صفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة؟.
وقال الرازي: إنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال: سمه إن شئت، يعني: أنه أخس من يسمى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسماً فافعل. فكأنه تعالى قال: سموهم بالآلهة، على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها.
{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ} أي: بشركاء لا يعلمهم سبحانه. وإذا كان لا يعلمهم، وهو عالم بكل شيء مما كان ومما يكون، فهم لا حقيقة لهم. فهو نفي لهم بنفي لازمهم على طريق الكناية.
قال الناصر: وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء، وأن الله لا يعلمهم كذلك؛ لأنهم ليسوا كذلك، وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله، إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة. ولكن مجيء النفي على هذا السنن المتلو بديع لا تكتنه بلاغته وبراعته. ولو أتى الكلام على الأصل غير محلى بهذا التصريف البديع لكان: وجعلوا لله شركاء وما هم بشركاء. فلم يكن بهذا الموقع الذي اقتضته التلاوة.
وقوله تعالى: {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ} أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، كتسمية الزنجي كافوراً من غير بياض فيه ولا رائحة طيبة، لفرط الجهل وسخافة العقل، وهذا كقوله تعالى: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِم} [التوبة: من الآية 30]: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: من الآية 40]، وعن الضحاك إن الظاهر بمعنى الباطل، كقوله:
وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

تنبيه:
قال الزمخشري: هذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها، منادٍ على نفسه بلسان طلق ذلق، أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه.
قال شارحوه: فإن قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} لما كان كافياً في هدم قاعدة الإشراك مع السابق واللاحق وما ضمن من زيادات النكت، وكان إبطالاً من طريق حق، مذيلاً بإيطال من طرف النقيض على معنى: ليتهم إذ أشركوا بمن لا يجوز أن يشرك به، أشركوا من يتوهم فيه ذلك أدنى توهم، وروعي فيه أنه لا أسماء للشركاء ولا حقيقة لها فضلاً عن المسمى على الكناية الإيمائية. ثم بولغ بأنها لا تستأهل أن يسأل عنها على الكناية التلويحية استدلالاً بنفي العلم عن نفي المعلوم. ثم منه إلى عدم الاستئهال مع التوبيخ، وتقدير أنهم يريدون أن ينبئوا عالم السر والخفيات بما لا يعلمه وهو محال على محال وفي جعل اتخاذهم شركاء، ومجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام إنباء له تعالى، نكتة بل نكت سرية. ثم أضرب عن ذلك. وقيل: قد بين الشمس لذي عينين، وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول لا طائل تحته بل هو صوت فارغ.
فمن تأمل حق التأمل، اعترف بأنه كلام خالق القُوَى والقُدَر، الذي تقف دون أستار أسراره أفهام البشر...!
وقوله تعالى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} إضراب عن الاحتجاج عليهم. كأنه قيل: دع ذكر ما كنا فيه من الدلائل على فساد قولهم؛ لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم، فلا ينتفعون بهذه الدلائل.
وقوله تعالى: {وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ} أي: عن سبيل الله، وقرئ بفتح الصاد أي: صدوا الناس: {وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ} أي: يخلق فيه الضلال بسوء اختياره، أو يخذله: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: من أحد يهديه.